بين العنف والتمييز والقمع.. حقوق الإنسان بالأمريكتين في مهب التراجع والتحديات

وفق تقرير لمنظمة لعفو الدولية

بين العنف والتمييز والقمع.. حقوق الإنسان بالأمريكتين في مهب التراجع والتحديات
احتجاجات ضد انتهاك حقوق الإنسان

تشهد الأمريكتان، شمالًا وجنوبًا، تراجعًا مقلقًا في أوضاع حقوق الإنسان، وسط مؤشرات متزايدة على التدهور، خاصة في الولايات المتحدة التي تعيش منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض توترات واسعة طالت حرية التظاهر والتعبير وحقوق المهاجرين.

ويرى خبراء في الشأن الأمريكي والقانون الدولي تحدثوا لـ"جسور بوست"، أن الأمريكتين ليستا بمنأى عن التراجع الحقوقي العالمي، لا سيما في ظل ممارسات من دول طالما رفعت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما تنتهكها اليوم بشكل ممنهج.

وأكدوا أن الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الكبرى في القارة، تتحمّل مسؤولية مزدوجة: فهي من جهة تغض الطرف عن انتهاكات حلفائها، ومن جهة أخرى تمارس انتهاكات مباشرة بدعوى حماية الأمن أو تحقيق المصالح.

وتتكوّن الأمريكتان من 35 دولة، منها 23 في أمريكا الشمالية و12 في أمريكا الجنوبية، وتغطي نحو 8.3% من سطح الأرض (28.4% من اليابسة)، ويعيش فيهما نحو 13.5% من سكان العالم، من بينهم الولايات المتحدة، وكندا، والبرازيل، والمكسيك، والأرجنتين، وكولومبيا، وبيرو، وتشيلي، وفنزويلا، والإكوادور، وغواتيمالا، وهندوراس، وكوستاريكا.

تحذيرات صارخة

وسلط تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024 الضوء على الأوضاع المتدهورة لحقوق الإنسان في الأمريكتين، مؤكدًا أن القارة "لا تزال من أخطر المناطق على المدافعين عن حقوق الإنسان"، مشيرًا إلى دول مثل الإكوادور، السلفادور، غواتيمالا، كندا، والمكسيك.

وأشار التقرير إلى تضييق الحيّز المدني من خلال سياسات قمعية اتبعتها عدة حكومات في المنطقة، ففي دول مثل الأرجنتين، أورغواي، البرازيل، كوبا، وفنزويلا، تعرّض الصحفيون للاعتداءات والمضايقات، وصل بعضها إلى القتل كما في المكسيك وكولومبيا، أو استدعاءات وتهديدات بالمحاكمة كما في كوبا.

وفي المكسيك، تم تسريب بيانات شخصية لـ324 صحفيًا عبر الإنترنت، في حين واصلت الحكومة الفنزويلية إغلاق المحطات الإذاعية وتقييد الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي.

كما وثق التقرير قمعًا واسعًا للاحتجاجات في دول عدة، منها الأرجنتين، فنزويلا، كوبا، المكسيك، والولايات المتحدة، وقد قوبلت احتجاجات طلابية في الجامعات الأمريكية والكندية ضد ما وصفوه بـ"الإبادة الجماعية في غزة" بردود عنيفة من الشرطة.

وفي فنزويلا وحدها، سجل "المرصد الفنزويلي للنزاع الاجتماعي" 915 احتجاجًا خلال يومين فقط، قُمِع منها 138 على يد قوات الأمن وميليشيات موالية للحكومة، كما أُقرت تشريعات جديدة مقيّدة للحق في التظاهر في الأرجنتين، بيرو، ونيكاراغوا، ما يعكس اتجاهًا إقليميًا متزايدًا نحو قمع الحراك المدني.

انتهاكات جسيمة

في المكسيك، وفقا لمنظمة العفو الدولية نفذ الجيش عمليات قتل طالت مهاجرين وأطفالًا. وفي فنزويلا، قُتل ما لا يقل عن 24 شخصًا خلال احتجاجات أعقبت انتخابات مثيرة للجدل. أما في السجون، فقد وثق التقرير حالات تعذيب وسوء معاملة في الإكوادور، السلفادور، نيكاراغوا، وفنزويلا.

وفي هايتي، تستمر الانتهاكات على يد عصابات مسلحة تمارس القتل، التشويه، الاغتصاب، والهجوم على المدارس والمستشفيات، وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة.

ورصد التقرير آلاف حالات الاحتجاز التعسفي، أبرزها في كوبا، حيث أُدين 14 شخصًا بسبب مشاركتهم في احتجاجات سلمية عام 2022، وفي غواتيمالا حيث حُكم على المدعية العامة السابقة فيرجينيا لابارا بتهم لا أساس لها، ما اضطرها لمغادرة البلاد إلى المنفى.

وفي الولايات المتحدة، استمر سجن الناشط من السكان الأصليين ليونارد بلتير رغم شكوك واسعة في محاكمته، كما وسّعت السلطات الأمريكية احتجاز المهاجرين بشكل جماعي، دون ضمانات قانونية كافية.

فيما سلط التقرير الضوء على التمييز العنصري ضد السود والشعوب الأصلية، والذي لا يزال متجذرًا في العديد من دول المنطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة، البرازيل، كندا، وكولومبيا. وأشار إلى حوادث قتل متكررة للسكان الأصليين في كندا، وممارسات عنصرية في التوظيف دفعت موظفين اتحاديين إلى رفع دعوى جماعية ضد الحكومة.

وفي الجمهورية الدومينيكية، لا يزال التمييز ضد الهايتيين ومَن ينحدرون من أصولهم ممارَسًا على نطاق واسع، وسط تجاهل رسمي شبه تام.

مجتمع الميم والمناخ

سُجلت حالات واسعة من التمييز المجحف ضد أفراد مجتمع الميم في عدد من دول الأمريكتين، بينها الأرجنتين، باراغواي، البرازيل، بورتو ريكو، بيرو، غواتيمالا، فنزويلا، كندا، كوبا، كولومبيا، المكسيك، هندوراس، والولايات المتحدة الأمريكية.

وفي كولومبيا، وثق التقرير مقتل 21 امرأة على الأقل من العابرات جنسيًا، فيما أفادت وسائل إعلام ومنظمات مجتمع مدني في المكسيك بوقوع ما لا يقل عن 59 حالة قتل استهدفت نساء عابرات جنسيًا، في مشهد يعكس حجم العنف والتمييز الذي يتعرض له هذا المجتمع.

على صعيد آخر، شهدت منطقة الأمريكيتين تقاعسًا ملحوظًا في مواجهة آثار أزمة المناخ على حقوق الإنسان، ففي دول مثل الإكوادور والبرازيل وفنزويلا، استمرَّت عمليات استخراج النفط وحرق الغاز، في حين فشلت كل من كندا والولايات المتحدة، كدول ذات دخل مرتفع وانبعاثات عالية، في اتخاذ إجراءات فعالة للحد من استخدام الوقود الأحفوري، رغم كونهما مصدرين رئيسيين لغازات الدفيئة.

كما عرقلت الدولتان التوصل إلى اتفاق تمويلي جديد لقضايا المناخ خلال مؤتمر كوب 29، واندلعت حرائق غابات واسعة في عدة دول، منها الأرجنتين، الإكوادور، باراغواي، البرازيل، بوليفيا، كندا، كولومبيا، بيرو، والولايات المتحدة، إلا أن استجابة الحكومات كانت غير كافية لمواجهة تداعيات هذه الحرائق على النظم البيئية وحقوق الإنسان.

وفي مجال الخدمات الصحية، أشار التقرير إلى تدني التمويل ونقص الخدمات والأدوية في بلدان عدة مثل: أوروغواي، باراغواي، البرازيل، بورتو ريكو، بيرو، غواتيمالا، فنزويلا، كوبا، والمكسيك، مما أثر بشكل سلبي على حق المواطنين في الرعاية الصحية.

اللاجئون والمهاجرون

واستمر العنف القائم على النوع الاجتماعي بلا هوادة أو عقاب، خاصة في أوروغواي، باراغواي، البرازيل، بورتو ريكو، بوليفيا، بيرو، فنزويلا، كوبا، كولومبيا، والمكسيك. وفي الأرجنتين، بلغت معدلات قتل النساء ذروتها مع حالة قتل واحدة كل 33 ساعة، رغم تقليص الميزانيات الحكومية المخصصة لمكافحة العنف ضد المرأة، إذ بلغت حالات الاغتصاب الموثقة في بيرو 12.924 حالة.

أما في الولايات المتحدة، فتشير الإحصاءات إلى أن نساء الهنود الأمريكيين والسكان الأصليين في ألاسكا يتعرضن للعنف الجنسي بمعدل يفوق نظيراتهن من غير السكان الأصليين بـ2.8 مرة.

ولم تكن حقوق اللاجئين والمهاجرين بأفضل حال، حيث تعرّضوا لكراهية الأجانب والعنصرية في مختلف أنحاء الأمريكيتين. 

وبحلول نهاية العام، تجاوز عدد الفنزويليين الفارين من بلادهم 7.89 مليون شخص منذ عام 2015، كما نزح أشخاص من السلفادور، كوبا، هايتي، وهندوراس بسبب العنف وانتهاكات حقوق الإنسان. 

وفي كندا، ظل برنامج العمال الأجانب المؤقتين يقيّد العاملين بجهة عمل واحدة، ما عرضهم للاستغلال. أما الولايات المتحدة، فقد أوقفت دخول طالبي اللجوء عبر الحدود المكسيكية، ما اضطرهم للانتظار في المكسيك حيث تعرضوا للابتزاز والاختطاف والعنف الجنسي.

صعود التيارات اليمينية

ومن جانبه يرى الدكتور سعيد صادق، الخبير في الشؤون الأمريكية والدولية، في تصريح لـ"جسور بوست" أن هناك تراجعًا عالميًا واضحًا في حقوق الإنسان، وهو ما لا تلتقطه أغلب التقارير، رغم وجود تقارير سنوية مثل تلك الصادرة عن منظمة العفو الدولية ومنظمة فريدم هاوس، التي توثق هذه الانتهاكات بشكل منتظم.

وأكد صادق أن صعود التيارات اليمينية العنصرية المتطرفة، وعلى قمتها إدارة الرئيس دونالد ترامب التي أثرت سلبًا على حقوق الإنسان خلال أول خمسة أشهر من حكمها، يمثل تحولًا كبيرًا وخطرًا في الملف الحقوقي في الأمريكيتين، ويشير مازحًا إلى أن ترامب قد "يضر بالكوكب وليس بحقوق الإنسان فقط".

ولفت صادق إلى أن الاهتمام العالمي بات منصبًا على الرأسمالية والصراعات العنصرية، أكثر من احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، رغم وجود مقاومة من مؤسسات وأطراف داخل الأمريكيتين، خصوصًا في الولايات المتحدة، التي تصر على استقلال القضاء وفصل السلطات ورفض بعض قرارات ترامب.

كما أشار صادق إلى ازدواجية المعايير التي تنتهجها الولايات المتحدة، معبراً عن غضبه من رد فعل أمريكا الشديد إزاء مقتل موظفين في سفارة إسرائيل بواشنطن، مقارنة بالصمت تجاه مقتل آلاف في غزة، ومشددًا على ضرورة تطبيق النهج الحقوقي بشفافية وعدالة على الجميع.

تراجع حقوقي عالمي

وبدوره أكد أستاذ القانون الدولي، الدكتور أمجد شهاب، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأولى في التراجع الحقوقي العالمي، ليس فقط بسبب انسحابها من مؤسسات حقوق الإنسان، بل أيضًا لتغاضيها عن جرائم الحرب، خصوصًا في فلسطين، ضمن مصالحها وتحالفها مع إسرائيل.

وشدد شهاب على أن الانتهاكات التي تُرتكب في الأمريكيتين وغيرها هي نتيجة لعدم تطبيق القانون الدولي بشكل عادل ومتساوٍ، موضحًا ازدواجية أمريكا في دعم أوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا، في حين أنها تدعم إسرائيل في ارتكاب جرائم حرب.

وأشار شهاب إلى أن الانهيار الحقوقي عالمياً صار حقيقة واضحة، وأكبر مظلومية تتمثل في القضية الفلسطينية التي تستمر منذ 77 عامًا وسط صمت دولي مخزٍ، وهو ما يشجع دولًا أخرى على ارتكاب انتهاكات مماثلة.

وحذّر من أن استمرار هذا الصمت والازدواجية قد يجعل القانون الدولي بلا قيمة، وينهي أمل حقوق الإنسان في التعافي، داعيًا المجتمع الدولي إلى إنصاف الشعوب المظلومة، خاصة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، لتعود القوانين والحقوق الدولية إلى مكانتها بعيدًا عن شريعة الغاب التي تنتشر عالميًا وتفاقم الانتهاكات.

تكشف هذه المعطيات عن أزمة بنيوية في احترام حقوق الإنسان في الأمريكتين، حيث تتراجع الحريات تحت ذرائع أمنية، وتمارس الانتهاكات بعلم وتواطؤ من حكومات كانت بالأمس تدّعي قيادة العالم في هذا الملف، حيث تتسع رقعة القمع، وتضيق المساحات المدنية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية